الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة
.مسألة ترك عمرما كان أراده من كتاب الأحاديث: قال مالك: كان عمر بن الخطاب قد أراد أن يكتب الأحاديث، أو كتب منها ثم قال: كتاب مع كتاب الله تعالى لا. قال محمد بن رشد: المعنى في هذا والله أعلم أن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كان أراد أن يكتب الأحاديث المأثورة عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، ليجعلها أصلاً يحمل الناس عليها في الآفاق، كما يفعل بالقرآن، فتوقف عن ذلك، إذ لا يقطع على صحة نقل الأحاديث عن النبي عليه السلام، كما يقطع على صحة نَقل التواتر، فقامت الحجة فَرأى أن يكل أمر الأحاديث إلى الاجتهاد، والنظر في صحة نقلها، ووجوب العمل بها، وأما أن يكتب الرجل الحديث قد رواه لِيَتَذَكَّرُه ولا ينساه، فلا كراهة في ذلك. وقد «حدَث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحديث، فجاء رجلٌ من أهل اليمن فقال: اكتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللَّه، فقال: اكْتُبُوا لأِبِي فلانٍ.» وقال أبو هريرة: مَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ أكْثَرَ حَدِيثاً عَنْهُ مِنِّي، إلَاّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَإنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أكْتُبُ. ولولا أن العلماء قيدوا الحديث ودنوه وميزوا الصحيح منه من السقيم، لدرس العلم وعمي أمر الدين. فالله يجازيهم على اجتهادهم في ذلك بأفضل جزاء المحسنين. وبالله التوفيق. .مسألة القلائد في أعناق الإبل والأجراس: قال محمد بن رشد: تعليق الأجراس والقلائد، وهي التمائم بما ليس فيه ذكر اللَّه، في أعناق الإبل مكروه عند عامة العلماء، لِمَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئهُ، مِن «أَنَّ رَسُولَ اللًّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بَعَثَ فِي بَعْض أسْفَارِه رَسُولاً، وَالنَّاسُ فِي مَقِيلِهِم، أَلَّا يبْقى فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلاَدَة مِنْ وَتَرٍ أَوْ قِلَادةِّ إلاَ قُطِعَتْ. فعمَّ ولم يخص جرساً من غيره». ورأى مالك الجرس أشد، لما فيه من الِإذاية بصوته. وفي رسم باع غلاماً بعد هذا عن سالم بن عبد الله أنه مر على عير لأهل الشام، وفيها جرس، فقال لهم سالم: إن هذا نهي عنه فقالوا له: نحن أعلم بهذا منك إنما يُكره الجلجل الكبير، فأما مثل هذا صغير، فليس فيه بأس، فسكت سالم. وإذا كان الجرس إنما يكره لصوته كما قال مالك، فلا شك في أنه كلما عظم فهو أشد كراهية. ويحتمل أن يكون وجه الكراهية فيه شبهه بالناقوس الذي يضرب به النصارى. وقد جاء عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه قال: «الْعِيرُ الَّتِي فِيهَا الْجَرَسُ، لَا تَصْحَبُهَا الْمَلاَئكَةُ» وقع هذا بعد هذا في رسم باع غلاماً المذكور. وقوله في الحديث قِلاَدة مِنْ وَتَرٍ أو قِلاَدَة شك من المحدث. ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه إنما تكره القلادة من الوتر خاصة، لأن البهيمة قد تختنقُ بها في خشبة أو شجرة، والخيط ينقطع سريعاً، فلا تختنق به. وأما الحديث الذي جاء: «قلدوا الْخَيْلَ وَلَا تُقلَدُوهَا الأوتار». فمعناه لا تركبوها في الدخُول وطلب التراث. وأما التميمةُ بذكر الله وأسمائه، فأجازها مالك مرة في المرض، وكرهها في الصحة، مخافة العين، أو لِما يُتقى من المرض، وأجازها مرةً بكل حال، في حال الصحة والمرض. ومن أهل العلم من كره التمائم في كل حال، كان فيها ذكر أو لم يكن، وفي كل حال، كان ذلك في حال الصحة أو المرض لما جاء في الحديث، مِنْ أن «من تَعَلَّقَ شَيْئاً وُكِلَ إلَيْهِ، وَمَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَلَا أتَمً اللَّهُ لَه وَمَنْ عَلَّقَ وَدَعةَ فلا وَدَعَ اللهُ لَهُ». ومنهم من أجازها على كل حال في حال المرض، ومنع منها في حال الصحة. لما روي عن عائشة من أنها قالت: ما عُلَقَ بَعْدَ نُزُول الْبَلَاء فَلَيْسَ بِتَمِيمَةٍ. وقد مضى هذا والكلام عليه مستوفى في الرسم الذي قبل هذا. وبالله التوفيق. .مسألة حكم الخضاب: قال محمد بن رشد: يريد لبدأتْ به ولَذكرتْه لعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث حين أرسلتْ إليه جاريتها نُخَيْلَةَ، تَعزمُ عليه أَن يصبُغ، وتخبرُه أن أبا بكر الصديق كان يصبُغ. وقد مضى هذا كله والكلام عليه مستوفى في الرسم الذي قبل هذا وبالله التوفيق. .مسألة تفسير الفَدادين والداء العًضال: وسئل مالك عن الداء العُضال فقال: هو الهلاك في الدين. قال محمد بن رشد: تفسير مالك للفدادين يريد الفدادين المذكورين في حديث أبي هريرة، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «رَأسُ الْكُفْرِ فِي الْمَشْرِقِ وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلاَءُ فِي أَهْل ألْخَيْل وَالِإبِل وَالْفدَّادينَ مِنْ أَهْل الْوَبَر. وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْل الْغَنَم». صحيح وتفسيره أيضا للداء العضال يريد المذكور في حديث مالك: أنَّهُ بَلَغَهُ أَن عُمَرَ بْنَ الْخَطَابِ أَرَادَ الْخُرُوجَ إلَى الْعِرَاقِ، فَقَالَ لَهُ كَعْبُ الأحْبَارِ: لَا تَخْرجْ إلَيْهَا يَا أمِير الْمُؤمِنِين، فَإنَّ بِهَا تِسْعَةَ أَعْشَارِ السِّحْرِ، وبِهَا فَسَقَةُ الْجِنِّ، وبِهَا الدَّاءً الْعُضَالُ. صحيحِ أيضاً بيِّن، لا إشكال فيه. وما ذكره من أنه يقال: إن بِخيْبَرَ وادياً قَدْ سَالَ نَاراَ، فالمعنى في ذلك إن صح أنه كان فيما خلا من الأمم السالفة عقوبة لأحد، أو معجزة لنبي. وبالله التوفيق. .مسألة حديث عيينة بن بدر: قال محمد بن رشد: عيينة بن بدر هذا هو عيينة بن حصن بن بدر الفزاري يكنى أبا مالك، أسلم بعد الفتح وشهد الفتح مسلماً. وهو من المؤلفة قلوبهم. وكان من الأعراب الجفاة. وحديثه الذي سأل ابن القاسم مالكاً عنه هو ما روي أنهُ «دَخَلَ عَلَى النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَيْنَ الِإذْنُ؟ فَقَالَ: مَا اسْتَأذَنْتُ عَلَى أَحَدٍ مِن مُضَر وَكانَت عَائِشَةُ مَعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَالِسَةً فَقَالَ: مَنْ هَذهِ الْحُمَيْرَاءُ؟ فَقَاَلَ: أُمُ الْمُؤمِنِين، فَقَالَ أَفَلَا أَنْزِلُ لَكَ عَنْ أَجْمَلَ مِنْهَا فَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَنْ هَذَا يَا رَسُولَ الله فَقَالَ: هَذَا أَحْمَقٌ مُطَاعٌ وَهًوَ عَلَى مَا تَرَيْنَ سَيِّدُ قَوْمِهِ». وفي حديث آخر أَنَهُ دَخَلَ عَلَى رَسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ قَبْل أَن يَنْزِلَ الْحِجَابُ، وعِنْدَهُ عَائِشَةُ فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ فَقَالَ: عَائِشَةُ. قَالَ أَفَلَا أَنْزِلُ لَكَ عَن أُمِّ المُؤْمِنينَ فَتنْكِحُهَا فَغَضِبَتْ عَائِشَةُ وَقَالَتْ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا أَحْمَقٌ مُطَاعٌ يعني في قومه وكان لعيينة هذا ابنُ أخ له دين وفضل من جلساء عمر بن الخطاب. يقال له الحر بن قيس. فقال لابن أخيه: ألا تدخلني على هذا الرجل؟ قال: إني أخاف أن تتكلم بكلام لا ينبغي. فقال: لا أفعل فأدخله على عمر فقال: يا ابن الخطاب، والله ما تقسم بالعدل، ولا تعطي الجزل، فغضب عمر غضباً شديداً حتى هم أن يوقع به. فقال ابن أخيه: يا أمير المؤمنين: إن الله يقول في كتابه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] قال: فخلى عنه عمر. وكان وقافاً عند كتاب الله. وإنما سأل ابن القاسم مالكاً عن حديث عيينة المذكور. والله أعلم هل بلغه أم لا؟ لما فيه من جهله على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه، وحِلْمِه عليه. وبالله التوفيق. .مسألة اللِّقْحَة الصَفِيّ: قال محمد بن رشد: قول مالك في اللقحة الصفي: إنها الغزيرة الكثيرة اللبن صحيح، لأن ذلك مفسر في الحديث: حديث أبي هريرة رواه مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول اله قال: «نِعْمَ المنيحَة اللَّقْحَةُ الصَفِيُ، والشَّاةُ الصَّفِيُّ تَغْدُو بِإنَاءٍ وَتَرُوحُ بآخَر» ومعنى الصفي المختارة، لأن صاحب اللقاح والغنم، يصطفي لنفسه غزار اللبن منها أي يختارها. فإذا منح جاره وابن عمه ما يصطفيه ويختاره، فنعمت المنحة هي، كما جاء في الحديث قَال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] الآية والله أعلم وبه التوفيق. .مسألة حكاية عن عمر بن عبد العزيز: قال محمد بن رشد: يريد والله أعلم بقوله: إلا من كان من أهل قسطنطينة إلا من كان من أسرى المسلمين بقسطنطينة فإنهم لا يحتاجون من صلتي ومعروفي إلى أكثر مما أصلهم وإنما هذه من أمرهم. فقد ذكر بعض المؤرخين أنه كتب إلى الأسرى بقسطنطينة لَسْتُم أسرى ولكنكم حُبسَاء في سبيل الله ولست أقْسِمُ شيئاً إلا خصصت أهلكم بمثله. وقد بعثت إلى كل شخص منكم خمسة دنانير، وبعثت أن يُفادَى كبيركم وصغيركم فأبشروا وبالله التوفيق. .مسألة التلبية في الحج في القفول: قال محمد بن رشد: هذا كما قال، لأن المدعوّ إنما يجيب الدعاء حتى يصل إليه ولا وجه لِإجابته في انصرافه عنه. وذلك ازدراءٌ من فعله، ولذلك قال عكرمة لمن رآه يلبي في رجوعه من الحج، أراك رجل سوء لأن إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما دعا الناس إلى الحج كما أمره عز وجل حيث يقول: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا} [الحج: 27] من عرفة فإليها تنهي غاية الملبي. وأجاز مالك لمن أبقَ غلامه، أو ذهب بعض متاعه في ذهابه إلى الحج، فرجع في طلبه أن يلبي في رجوعه في طلبه، لأنه في حكم الذاهب، وقد مضى في هذا الرسم من هذا السماع في كتاب الحج. وبالله التوفيق. .مسألة التحذير من الأهواء: قال محمد بن رشد: أهل الأهواء على ثلاثة أقسام: قسم يكفرون بإجماع وهم الذين اعتقادهم كفر صريح، كالذين يقولون: إِن جبريل أخطأ بالوحي، وإنما كان النبي علي بن أبي طالب. وقسم لا يكفرون بإجماع وهم الذين لا يؤول قولهم إلى الكفر إلا بالتركيب، وهو أن يقال: إذا قال كذا وكذا، فلزمه عليه كذا أو كذا وإذا قال كذا وكذا لزمه عليه كذا وكذا، حتى يؤول بذلك إلى الكفر. وقسم يختلف في تكفيرهم وهم الذين يعتقدون مذهباً يسد عليهم طريق المعرفة بالله تعالى، كنحو ما يعتقده القدَرية والمعتزلة والخوارج، والروافض. فروي عن مالك أنهم يكفرون بمآل قولهم. قاله في أول سماع ابن القاسم من كتاب المحاربين والمرتدين، فيستتابون على هذا القول كالمُرْتَدِّ وقيل: إنهم لا يكفرون بمآل قولهم لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في المثل الذي ضربه فيهم. وتتمارَا في الفرق، لأنه يدل عن الشك في خروجهم عن الِإيمان، وإذا شك في خروجهم عن الِإيمان وجب ألا يحكم بكفرهم إِلا بيقين فيضربون على هذا القول، كما فعل عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بصبيغ ولا يقتلون. وبالله التوفيق. .مسألة ما كان عليه الناس من ضيق العيش في أول الأمة: قال محمد بن رشد: الغداء والعشاء نهاية الترفه في الدنيا ولذلك قال عز وجل في أهل الجنة: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] أي إِن الذي بين غدائهم، وعشائهم في الجنة قدر ما بين غداءِ أحدنا وعشائه في الدنيا لأنه لا ليل في الجنة ولا نهار. وهذا مثل قوله عز وجل: {خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] و{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54] يعني من أيام الدنيا وبالله التوفيق. .مسألة حسن الصوت بالقرآن: قال محمد بن رشد: إنما كره مالك للقوم أن يقولوا للحسن الصوت: اقرأ علينا، إذا أرادوا بذلك حسن صوته كما قال، لا إذا قالوا ذلك له استدعاءً لرقة قلوبهم بسماع قراءته الحسنة. فقد روي أن رسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ مَا أذِنَ لِنَبيٍّ يَتَغنَّى بالقرآن» أي ما استمع لشيء يحسن صوته بالقرآن طلباً لرقة قلبه بذلك. وقد كان عمر بن الخطاب إِذَا رَأى أبا موسى الأشعري قال: ذَكّرْنَا رَبَّنَا فَيَقْرَأ عِنْدَهُ. وكان حسن الصوت، فلم يكن عمر ليقصد الالتذاذ بحسن صوته، وإنما استدعى رقة قلبه بسماع قراءته للقرآن، وهذا لا بأس به، إذا صح من فاعله على هذا الوجه. وقول مالك: إن من الأحاديث أحاديث قد سمعتها وأنا أتقنها، إنما اتقى أن يكون التَّحدثُ بما روي عن عمر بن الخطاب من هذا ذريعةً لاستجازة قراءة القرآن بالألحان ابتغاء سماع الأصوات الحسان، والالتذاذ بذلك، حتى يقصد أن يقدم الرجل للِإمامة لحسن صوته، لا لما سوى ذلك، مما يجب أن يرغِّب في إِمامته لأجله، فقد روي عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه قال: «بَادِرُوا بِالْمَوْتِ سِتّاً». فذكرها أحدها: «نشْوا يَتَّخِذُونَ الْقُرْآنَ مَزَامِيرَ يُقَدِّمون أحَدَهُم لِيُغَنِّيَهُم، وَإِنْ كَانَ أقَلَّهُم فِقْهاً». فالتحذيرُ إنما وقع في الحديث لِإيثارهم تقديم حَسَنِ الصوت على الكثير الفقه، فلو كان رجلان مستويَيْن في الفضل والفقه، وأَحدهما أحسن صوتا بالقراءة، لَما كان مكروهاً أن يقدم الأحسن صوتاً بالقراءة، لأنها مزية زائدة محمودة، خصه الله بها. وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي موسى الأشعري تغْبيطاً له بما وهبه الله من حسن الصوت، «لَقَدْ أوتِيتَ مِزْمَاراً مِنْ مَزَامِيرِ آل دَاوودَ». وأما ما روي من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَيْسَ مِنَّا مَن لَمْ يَتَغَنَّ بالْقُرْآنِ». فقيل معناه: من لم يستغن بالقرآن أي من لم ير أنه به أَفضل حالاً من الغناء بغناه. وقيل: معناه من لم يحسن صوته بالقرآن استدعاء لرقة قلبه بذلك. وقد قيل لابن أَبي مليكة: أحَدِ رُواة الحديث: فمن لم يكن له حلق حسن. قال: يحسنه ما استطاع والتأويل الأول أولى، لأن قوله في الحديث. «لَيْس منَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» يدل على أنه من لم يفعل ذلك فهو مذموم، وليس من ابتغى ثواب الله من غير أن يحسن به صوته مذموماً على فعله. وقد مضى هذا في رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة لتكرر المسألة هناك. وإِنما كره مالك لقوم يتحلقون في السورة الواحدة، لأنه أَمر مبتدع، ليس من فعل السلف، ولأنهم يبتغون من الألحان وتحسين الأصوات بموافقة بعضهم بعضاً، وزيادة بعضهم في صوت بعض، على نحو ما يفعل في الغناء فوجه المكروه في ذلك بيِّن. وقد مضى هذا في رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة. وبالله التوفيق. .مسألة نهي عمر للمهاجرين أن يتخذ مالا خلف الروحا: قال محمد بن رشد: إِنما قال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هذا لأنه استحب للمهاجرين المقام بالمدينة التي هاجروا إليها فالمهاجر لا يجوز له المقام بمكة لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يُقِيمًنّ مُهَاجِرٌ بِمَكَةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ فَوْقَ ثَلَاثٍ». ويستحب له المقام بالمدينة وترك الخروج منها إلى غيرها على ما يدل عليه قول عمر في هذا الحديث. وبالله التوفيق. .مسألة وقت فتح خيبروالخندق والفتح: قال محمد بن رشد: قوله في خيبر إنها فتحت على رأس ستِّ سنين صحيح. كذا قال أهل السير. وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما انصرف من الحُديبية إلى المدينة، مكث بها ذا الحجة، وبعض المحرم، ثم خرج في البقية منه غازياً إلى خيبر، ولم يبق من السنة السادسة من الهجرة، إلا شهر وأيام، وكان الله عز وجل قد وعده إياها وهو بالحُديبية. فأنزل عليه: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 18] الآية. فلم يختلف أهل العلم أنها البيعة بالحُديبية وكانت الشجرة سمرة بالحديبية. وأما قوله في الخندق: إِنه كان على أربع، فهو خلاف ما قاله أهل السير من أنه كان في شوال من السنة الخامسة. وكان سببه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أجلَى بني النضير خرج نفر من سادات اليهود منهم حُيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، حتى قدموا مكة، فدعوا قريشاً إلِى حرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأجابهم أهل مكة إِلى ذلك، ثم خرجوا إلى غطفان، فدعوهم فأجابوهم، فخرجت قريش يَجرهم أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان يقودهم عُيينة بن حصين الفزاري، فأقبلت قريش في نحو عشرة آلاف بمن معهم من كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان بمن معها من أهل نجد، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتماعهم وخروجهم إليه، شاور أصحابه، فأشار عليه سلمان بحفر الخندق، فرضي رأيه، وعمل المسلمون في الخندق، ونكص المنافقونَ وجعلوا يتسللون لِوَاذاً فنزلت فيه آيات من القرآن وكان من فرغ من المسلمين من حصته، عاد إلى غيره فأعانه حتى كمل الخندق، وكانت فيه آيات بينات، وعلامات للنبوءة مذكورات. وأما قوله في الفتح: إِنه كان على ثمان، فهو صحيح، لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَما انصرف من عمرة القضاء سنة سبع، أقام بالمدينة ذا الحجة والمحرم، وصفر، وشهري ربيع، ثم بعث عَلَيْهِ السَّلَامُ في جمادى الآخرة من السنة الثامنة الأمراء إلى الشام، وأمَّر على الجيش زيد بن حارثة مولاه. وقال: إِن أصيب فعلى الناس جعفر بن أبي طالب، وشيعهم وودعهم، ثم انصرف ونهض، وكان من أمرهم ما هو مذكور في السيَر. ثم أقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة بعد بعث موتة، جمادى ورجب، ثم حدث الأمر الذي أوجب نقض عقد قريش المعقود يوم الحديبية، تركتً ذكره احتصاراً. وخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عشرة آلاف، واستخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن الحصين الغفاري، وكان خروجه لعشر خلون من رمضان من سنة ثمان كما قال مالك في الرواية. وبالله تعالى التوفيق. .مسألة لباس الحرير في الجهاد: قال محمد بن رشد: أما اتخاذ الراية من الحرير فلا اختلاف في جواز ذلك، وأما لباسه عند القتال، فقد أجازه جماعة من الصحابة والتابعين، وهو قول ابن الماجشون وروايته عن مالك لِما في ذلك من المباهاة بالِإسلام، والِإرهاب على العدو، ولما يقي عند القتال من النبل وغيره من السلاح، وهو قول محمد بن عبد الحكم. وحكاه ابن سفيان عن مالك من رواية عيسى عن ابن القاسم عنه، فإن استشهد وهو عليه، نزع عنه على مذهب من لا يجيز له لباسه في الجهاد. وقد مضى هذا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الجهاد لتكرر المسألة هناك. .مسألة شراء اللحم يأخذ منه كل يوم رطلاً أو رطلين والثمن إلى العطاء: قال محمد بن رشد: قوله: كنا نبتاع اللحم من الجزارين بسعر معلوم، نأكل كل يوم رطلين أو ثلاثة، نشترط عليهمِ أن ندفع الثمن إلى العطاء. يدل على أن ذلك كان معلوماً عندهم مشهوراَ من فعلهم، لاشتهار ذلك من فعلهم، سميت بيعة أهل المدينة، وهذا أجازه مالك وأصحابه، اتباعاً لما جرى عليه العمل بالمدينة بشرطين: أحدهما أن يشرع في أخذ ما سُلم فيه، والثاني أن يكون ذلك أصل المسلم إليه على ما قاله غير ابن القاسم في سماع سحنون، من كتاب السلم والآجال، فليس ذلك بسلم محض، ولذلك جاز تأخير رأْس المال فيه، ولا شراء شيء بعينه حقيقة، ولذلك جاز أن يتأخر قبض جميعه إذا شرع في قبض أوله. وقد روي عن مالك أنه لم يجز ذلك، ورآه ديناً بدين. وقَال: تأويل حديث ابن المحبر أن يجب عليه ثمن ما يأخذ كل يوم إلى العطاء، وهو تأويل سائغ في الحديث، لأنه إِنَّما سمى فيه السوم ولم يأخذه في كل يوم، ولم يذكر عدد الأرطال التي اشترى منه، فلم ينعقد بينهما في ذلك بيع على عدد مسمّى، من الأرطال، فكلما أخذ منه شيئاً وجب عليه ثمنه إلى العطاء ولا يلزم واحداً منهما التمادي على ذلك، إذا لم يعقد بيعهما على ثمن معلوم مسمى من الأرطال، وإجارة ذلك مع تسمية عدد الأرطال التي يأخذ منها في كل يوم رطلين أو ثلاثة، على الشرطين المذكورين هو المشهور في المذهب. وقوله في هذه الرواية: وَأَنا أرى ذلك حسناً، معناه: وأنا أجيز ذلك استحساناً اتباعاً لعمل أهل المدينة. وإن كان القياس بخلافه. وبالله التوفيق. .مسألة حكاية عن سعيد بن المسيب: قال محمد بن رشد: هذا كما قال رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إن النصف درهم أحب إليه من هذه الخمسة الآلاف. لأن الأمير الذي أعطاه الخمسة الآلاف لم يكن الخليفة أو أميراً مفوضا إليه قسمةُ مال الله بين الناس وإِجازةُ من يستحق الجائزة منهم، فلا يجوز له الأخذ منه، وإِن كان للخليفة أو من فوض إليه الخليفة أمر مال الله، فتَرْكُه خير من أخذه، وإن كان المجبى حلالاً وعدل في قسمه بين الناس، لأنه إذا تركه، ليعطى لمن هو أحوج إليه منه فقد أجر في ذلك، مع قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ لِحكيم بن حزام: «إِن خَيْراً لِأحَدِكُمْ أن لَا يَأخُذَ مِن أحَدِ شَيْئاً، قَالَ: وَلَا مِنْكَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: وَلَا مِنَي» وتركه لمحاسبة غلامه بما له عنده، من إضاعة المال المنهي عنه. .مسألة علم الحرير في الثوب: قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا في آخر رسم حلف قبل هذا فلا معنى لإِعادته. .مسألة ما يلزم المستشار من النصح: قال محمد بن رشد: في هذا الحديث أن على المستشار للمستشير أَن يعمل نظره فيما يراه من الرأي، ولا يشير عليه إلاَّ بعد أن يَتثَبَّتَ في ذلك، ويجهد النظر فيه، فإنًه قد ائْتَمَنَه في ذلك، ورجا حسن نظره له، وأَداءُ الأمانة من الإيمان والنصيحةُ من الدِّين. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ قِيلَ: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: لِلّهِ وَرَسُولِهِ وَلِأئمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِم». وبالله التوفيق.
|